فصل: سورة المائدة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 160‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏153‏)‏ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏154‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏155‏)‏ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ‏(‏156‏)‏ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‏(‏157‏)‏ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏158‏)‏ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ‏(‏159‏)‏ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏يسألك أهل الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يأتيهم بكتابٍ جُمْلَةً من السَّماء، كما أتى به موسى، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فقد سألوا موسى أكبر من ذلك‏}‏ يعني‏:‏ السَّبعين الذين ذكروا في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏ثمَّ اتخذوا العجل‏}‏ يعني‏:‏ الذين خلَّفهم موسى مع هارون ‏{‏من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ العصا، واليد، وفلق البحر ‏{‏فعفونا عن ذلك‏}‏ لم نستأصل عبدة العجل ‏{‏وآتينا موسى سلطاناً مبيناً‏}‏ حجَّةً بيِّنةً قوي بها على مَنْ ناوأه‏.‏

‏{‏ورفعنا فوقهم الطور‏}‏ حين امتنعوا من قبول شريعة التَّوراة ‏{‏بميثاقهم‏}‏ أَيْ‏:‏ بأخذ ميثاقهم ‏{‏وقلنا لهم لا تعدوا في السبت‏}‏ لا تعتدوا باقتناص السَّمك فيه ‏{‏وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً‏}‏ عهداً مؤكَّداً في النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ أَيْ‏:‏ فبنقضهم، و‏"‏ ما ‏"‏ زائدةٌ للتَّوكيد، وقوله‏:‏ ‏{‏بل طبع اللَّهُ عليها بكفرهم‏}‏ أَيْ‏:‏ ختم الله على قلوبهم فلا تعي وَعْظاً، مجازاةً لهم على كفرهم، ‏{‏فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً‏}‏ يعني‏:‏ الذين آمنوا‏.‏

‏{‏وبكفرهم‏}‏ بالمسيح ‏{‏وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً‏}‏ حين رموها بالزِّنا‏.‏

‏{‏وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابنَ مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم‏}‏ أَيْ‏:‏ ألقي لهم شبه عيسى على غيره حتى ظنُّوه لمَّا رأوه أنَّه المسيح ‏{‏وإنَّ الذين اختلفوا فيه‏}‏ أَيْ‏:‏ في قتله، وذلك أنَّهم لمَّا قتلوا الشَّخص المشَبَّه به كان الشَّبَه أُلقي على وجهه، ولم يُلق على جسده شبهُ جسدِ عيسى، فلمَّا قتلوه ونظروا إليه قالوا‏:‏ الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره، فاختلفوا، فقال بعضهم‏:‏ هذا عيسى، وقال بعضهم‏:‏ ليس بعيسى، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏لفي شك منه‏}‏ أَيْ‏:‏ مِنْ قتله ‏{‏ما لهم به‏}‏ بعيسى ‏{‏من علم‏}‏ قُتِل أو لم يقتل ‏{‏إلاَّ اتباع الظن‏}‏ لكنَّهم يتَّبعون الظَّنَّ ‏{‏وما قتلوه يقيناً‏}‏ وما قتلوا المسيح على يقين من أنَّه المسيح‏.‏

‏{‏بل رفعه الله إليه‏}‏ أَيْ‏:‏ إلى الموضع الذي لا يجري لأحدٍ سوى الله فيه حكمٌ وكان رفعُه إلى ذلك الموضع رفعاً إليه؛ لأنَّه رُفع عن أن يجري عليه حكم أحدٍ من العباد ‏{‏وكان الله عزيزاً‏}‏ في اقتداره على نجاة مَنْ يشاء من عباده ‏{‏حكيماً‏}‏ في تدبيره في النَّجاة‏.‏

‏{‏وإن من أهل الكتاب إلاَّ ليؤمنن به‏}‏ أَيْ‏:‏ ما مِن أهل الكتاب أحدٌ إلاَّ ليؤمننَّ بعيسى ‏{‏قبل موته‏}‏ إذا عاين المَلَك، ولا ينفعه حينئذٍ إيمانه، ولا يموت يهوديٌّ حتى يؤمن بعيسى ‏{‏ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً‏}‏ على أنْ قد بلَّغ الرِّسالة، وأقرَّ بالعبوديَّة على نفسه‏.‏

‏{‏فبظلم من الذين هادوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ عاقب الله اليهود على ظلمهم وبغيهم بتحريم اشياء عليهم، وهي ما ذُكر في قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرَّمنا كلَّ ذي ظُفرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 162‏]‏

‏{‏لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏162‏)‏‏}‏

ثمَّ استثنى مؤمنيهم فقال‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون‏}‏ يعني‏:‏ المبالغين في علم الكتاب منهم، كعبد الله بن سلام وأصحابه ‏{‏والمؤمنون‏}‏ من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ‏{‏يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً‏}‏ ظاهرةً إلى قوله‏:‏ ‏{‏رسلاً مبشرين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 170‏]‏

‏{‏رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏165‏)‏ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏166‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏167‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ‏(‏168‏)‏ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏169‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏170‏)‏‏}‏

‏{‏رسلاً مبشرين‏}‏ أَيْ‏:‏ بالثَّواب على الطَّاعة ‏{‏ومنذرين‏}‏ بالعقاب على المعصية ‏{‏لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ فيقولوا‏:‏ ما أرسلت إلينا رسولاً يعلّمنا دينك، فبعثنا الرُّسل قطعاً لعذرهم‏.‏

‏{‏ولكن الله يشهد‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت حين قالت اليهود- لما سُئلوا عن نبوَّة محمَّدٍ-‏:‏ ما نشهد له بذلك، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لكن الله يشهد‏}‏ أَيْ‏:‏ يبيِّن نبوَّتك ‏{‏بما أنزل إليك‏}‏ من القرآن ودلائله ‏{‏أنزله بعلمه‏}‏ أَيْ‏:‏ وهو يعلم أنَّك أهلٌ لإِنزاله عليك لقيامك به ‏{‏والملائكة يشهدون‏}‏ لك بالنُّبوَّة إنْ جحدت اليهود، وشهادة الملائكة إنَّما تُعرف بقيام المعجزة، فمَنْ ظهرت معجزته شهدت الملائكة بصدقه ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ أَيْ‏:‏ كفى الله شهيداً‏.‏

‏{‏إنَّ الذين كفروا‏}‏ يعني اليهود ‏{‏وظلموا‏}‏ محمداً عليه السَّلام بكتمان نعته ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم‏}‏ هذا فيمن علم أنَّه يموت على الكفر ‏{‏ولا ليهديهم طريقاً‏}‏ ولا ليرشدهم إلى دين الإِسلام‏.‏

‏{‏إلاَّ طريق جهنم‏}‏ يعني‏:‏ طريق اليهوديَّة، وهو الطَّريق الذي يقودهم إلى جهنَّم ‏{‏خالدين فيها أبداً وكان ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ خلودهم ‏{‏على الله يسيراً‏}‏ لأنَّه لا يتعذَّر عليه شيءٌ‏.‏

‏{‏يا أيها الناس‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏قد جاءكم الرسول بالحق‏}‏ بالهدى والصِّدق ‏{‏من ربكم فآمنوا خيراً لكم‏}‏ أَيْ‏:‏ ايتوا خيراً لكم من الكفر بالإِيمان به ‏{‏وإنْ تكفروا‏}‏ تُكذِّبوا محمداً وتكفروا نعمة الله عليكم به ‏{‏فإنَّ لله ما في السموات والأرض‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تضرُّون إلاَّ أنفسكم؛ لأنَّ الله غنيٌّ عنكم ‏{‏وكان الله عليماً‏}‏ بما تصيرون إليه من إيمان أو كفر ‏{‏حكيماً‏}‏ في تكليفه مع علمه بما يكون منكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 172‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏171‏)‏ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ‏(‏172‏)‏‏}‏

‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ يريد‏:‏ النَّصارى ‏{‏لا تغلوا‏}‏ لا تتجاوزوا الحدَّ ولا تتشدَّدوا ‏{‏في دينكم ولا تقولوا على الله إلاَّ الحق‏}‏ فليس له ولدٌ، ولا زوجة، ولا شريك، وقوله‏:‏ ‏{‏وكلمته ألقاها‏}‏ يعني‏:‏ أنَّه قال له‏:‏ كن فيكون ‏{‏وروحٌ منه‏}‏ أَيْ‏:‏ روحٌ مخلوقٌ من عنده ‏{‏ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تقولوا‏:‏ آلهتنا ثلاثة‏.‏ يعني قولهم‏:‏ اللَّهُ، وصاحبته، وابنه ‏[‏تعالى الله عن ذلك‏]‏‏.‏ ‏{‏انتهوا خيراً لكم‏}‏ أَي‏:‏ ائتوا بالانتهاء عن هذا خيراً لكم مما أنتم عليه‏.‏

‏{‏لن يستنكف المسيح‏}‏ لن يأنف الذي تزعمون أنَّه إِلهٌ ‏{‏أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون‏}‏ من كرامة الله تعالى، وهم أكثرُ من البشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 176‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ‏(‏174‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏175‏)‏ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏176‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الناس قد جاءكم برهانٌ من ربكم‏}‏ يعني‏:‏ النبيَّ عليه السَّلام ‏{‏وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً‏}‏ وهو القرآن‏.‏

‏{‏فأمَّا الذين آمنوا بالله واعتصموا به‏}‏ أَي‏:‏ امتنعوا بطاعته من زيغ الشَّيطان ‏{‏فسيدخلهم في رحمة منه‏}‏ يعني‏:‏ الجنَّة ‏{‏وفضل‏}‏ يتفضَّل عليهم بما لم يخطر على قلوبهم ‏{‏ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً‏}‏ ديناً مستقيماً‏.‏

‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ فيمن مات ولا ولد له، ولا والد ‏{‏إن امرؤٌ هلك ليس له ولد‏}‏ أراد‏:‏ ولا والد، فاكتفى بذكر أحدهما، لأنَّه الكلالة ‏{‏وله أختٌ‏}‏ يعني‏:‏ من أبٍ وأمٍّ، أو أبٍٍ؛ لأنَّ ذكر ولد الأم قد مضى في أوَّل السُّورة ‏{‏فلها نصف ما ترك وهو يرثها‏}‏ الأخ يرث الأخت جميع المال ‏{‏إنْ لم يكن لها ولد فإن كانتا‏}‏ أَيْ‏:‏ الأختان، ‏[‏‏{‏فلهما الثُّلثان ممَّا ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً‏}‏ من أب وأمّ أو من أبٍ ‏{‏فللذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يبيِّن الله لكم أن تضلوا‏}‏ أي‏:‏ أن لا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا ‏[‏‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏ من قسمة المواريث‏]‏‏.‏

سورة المائدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود‏}‏ يعني‏:‏ بالعهود المؤكَّدة التي عاهدتموها مع الله والنَّاس، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر، فقال‏:‏ ‏{‏أحلت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ قيل‏:‏ هي الأنعام نفسها، وهي الإِبلُ والبقر والغنم، وقيل‏:‏ بهيمة الأنعام‏:‏ وحشِيُّها كالظِّباء، وبقر الوحش، وحمر الوحش ‏{‏إلا ما يتلى عليها‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ ما يقرأ عليكم في القرآن‏]‏ يعني‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏حرِّمت عليكم الميتة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏غير محلي الصيد‏}‏ يعني‏:‏ إلاَّ أن تحلُّوا الصَّيد في حال الإِحرام؛ فإنَّه لا يحلُّ لكم ‏{‏إنَّ الله يحكم ما يريد‏}‏ يحلُّ ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تُحِلُّوا شعائر الله‏}‏ يعني‏:‏ الهدايا المُعلَمة للذَّبح بمكة‏.‏ نزلت هذه الآية في الحُطَم ‏[‏بن ضبيعة‏]‏ أغار على سرح المدينة، فذهب به إلى اليمامة، ‏"‏ فلمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجَّاج اليمامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا الحطم فدونكم، وكان قد قلَّد ما نهب من سرح المدينة، وأهداه إلى الكعبة ‏"‏، فلمَّا توجَّهوا في طلبه أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحلوا شعائر الله‏}‏ يريد‏:‏ ما أُشعر لله، أَيْ‏:‏ أُعْلِمَ ‏{‏ولا الشهر الحرام‏}‏ بالقتال فيه ‏{‏ولا الهدي‏}‏ وهي كلُّ ما أُهدي إلى بيت الله من ناقةٍ، وبقرةٍ وشاةٍ، ‏{‏ولا القلائد‏}‏ يعني‏:‏ الهدايا المقلَّدة من لحاء شجر الحرم ‏{‏ولا آمِّين البيت الحرام‏}‏ قاصديه من المشركين‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كانت الحرب في الجاهليَّة قائمة بين العرب إلاَّ في الأشهر الحرم، فمَن وُجد في غيرها أُصيب منه إلاَّ أنْ يكونَ مُشعراً بدنه، أو سائقاً هدايا، أو مُقلِّداً نفسه أو بعيره من لحاء شجر الحرم، أو مُحرماً، فلا يُتعرَّض لهؤلاء، فأمر الله سبحانه تعالى المُسْلمين بإقرار هذه الأَمنة على ما كانت لضربِ من المصلحة إلى أنْ نسخها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يبتغون فضلاً من ربهم‏}‏ أَيْ‏:‏ ربحاً بالتِّجارة ‏{‏ورضواناً‏}‏ بالحجِّ على زعمهم ‏{‏وإذا حللتم‏}‏ من الإحرام ‏{‏فاصطادوا‏}‏ أمرُ إباحةٍ ‏{‏ولا يجرمنَّكم‏}‏ ولا يحملنَّكم ‏{‏شنآن قومٍ‏}‏ بُغض قومٍ، يعني‏:‏ أهل مكَّة ‏{‏أن صدوكم عن المسجد الحرام‏}‏ يعني‏:‏ عام الحدييبية ‏{‏أن تعتدوا‏}‏ على حُجَّاج اليمامة، فتستحلُّوا منهم مُحرَّماً ‏{‏وتعاونوا‏}‏ لِيُعِنْ بعضكم بعضاً ‏{‏على البر‏}‏ وهو ما أمرتُ به ‏{‏والتقوى‏}‏ ترك ما نهيتُ عنه ‏{‏ولا تعاونوا على الإثم‏}‏ يعني‏:‏ معاصي الله ‏{‏والعدوان‏}‏ التَّعدي في حدوده، ثمَّ حذَّرهم فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فلا تستحلوا محرَّماً ‏{‏إنَّ الله شديد العقاب‏}‏ إذا عاقب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏3‏)‏ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏حرِّمت عليكم الميتة‏}‏ سبق تفسير هذه الاية في سورة البقرة، إلى قوله‏:‏ ‏{‏والمنخنقة‏}‏ وهي التي تختنق فتموت بأيِّ وجهٍ كان ‏{‏والموقوذة‏}‏ المقتولة ضرباً ‏{‏والمتردية‏}‏ التي تقع من أعلى إلى أسفل فتموت ‏{‏والنطيحة‏}‏ التي قُتلت نطحاً ‏{‏ما أكل‏}‏ منه ‏{‏السبع‏}‏ فالباقي منه حرامٌ، ثمَّ استثنى ما يُدرك ذكاته من جميع هذه المحرَّمات فقال‏:‏ ‏{‏إلا ما ذكيتم‏}‏ أَيْ‏:‏ إلاَّ ما ذبحتم ‏{‏وما ذبح على النصب‏}‏ أَيْ‏:‏ على اسم الأصنام فهو حرام ‏{‏وأن تستقسموا بالأزلام‏}‏ تطلبوا على ما قُسم لكم من الخير والشَّرِّ من الأزلام‏:‏ القداح التي كان أهل الجاهليَّة يُجيلونها إذا أرادوا أمراً ‏{‏ذلكم‏}‏ أَيْ‏:‏ الاستقسامُ من الأزلام ‏{‏فسق‏}‏ خروجٌ عن الحلال إلى الحرام ‏{‏اليوم‏}‏ يعني‏:‏ يوم عرفة عام حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، ‏{‏يئس الذين كفروا‏}‏ أن ترتدُّوا راجعين إلى دينهم ‏{‏فلا تخشوهم‏}‏ في مظاهرة محمد، واتِّباع دينه ‏{‏واخشون‏}‏ في عبادة الأوثان ‏{‏اليوم‏}‏ يعني‏:‏ يوم عرفة ‏{‏أكملتُ لكم دينكم‏}‏ أحكام دينكم، فلم ينزل بعد هذه الآية حلالٌ ولا حرامٌ ‏{‏وأتممت عليكم نعمتي‏}‏ يعني‏:‏ بدخول مكَّة آمنين كما وعدتكم ‏{‏فمن اضطر‏}‏ إلى ما حُرِّم ممَّا ذُكر في هذه الآية ‏{‏في مخمصة‏}‏ مجاعةٍ ‏{‏غير متجانفٍ لإِثم‏}‏ غير متعرِّضٍ لمعصيةٍ، وهو أن يأكل فوق الشِّبع، أو يكون عاصياً بسفره ‏{‏فإنَّ الله غفورٌ‏}‏ له ما أكل ممَّا حرَّم عليه ‏{‏رحيم‏}‏ بأوليائه حيث رخَّص لهم‏.‏

‏{‏يسألونك ماذا أحلَّ لهم‏}‏ سأل عديُّ بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنَّا نصيد بالكلاب والبُزاة، وقد حرَّم الله الميتة، فماذا يحلُّ لنا منها‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ ‏{‏قل أحلَّ لكم الطيبات‏}‏ يعين‏:‏ ما تستطيبه العرب، وهذا هو الأصل في التَّحليل، فكلُّ حيوانٍ استطابته العرب، كالضِّباب، واليرابيع، والأرانب فهو حلال، وما استخبثته العرب فهو حرام ‏{‏وما علَّمتم‏}‏ يعني‏:‏ وصيد ما علَّمتم ‏{‏من الجوارح‏}‏ وهي الكواسب من الطَّير والكلاب والسِّباع ‏{‏مكلِّبين‏}‏ مُعلِّمين إيَّاها الصَّيد ‏{‏تعلمونهن مما علمكم الله‏}‏ تؤدبوهنَّ لطلب الصَّيد ‏{‏فكلوا ممَّا أمسكن عليكم‏}‏ هذه الجوارح وإنْ قتلن إذا لم يأكلن منه، فإذا أكلن فالظَّاهر أنَّه حرام ‏{‏واذكروا اسم الله عليه‏}‏ عند إرسال الجوارح‏.‏

‏{‏اليوم أحلَّ لكم الطيبات‏}‏ التي سألتم عنها ‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب‏}‏ وهو اسمٌ لجميع ما يؤكل ‏{‏حلٌّ لكم وطعامكم حل لهم‏}‏ أَيْ‏:‏ حلٌّ لكم أن تطعموهم ‏{‏والمحصنات‏}‏ العفائف ‏{‏من المؤمنات والمحصنات‏}‏ الحرائر ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ من أهل الكتاب ‏{‏إذا آتيتموهنَّ أجورهنَّ‏}‏ يعني‏:‏ مهورهنَّ ‏{‏محصنين‏}‏ مُتزوِّجين ‏{‏غير مسافحين‏}‏ معالنين بالزِّنا ‏{‏ولا متخذي أخذان‏}‏ مُسرّين بالزِّنا بهنَّ ‏{‏ومَنْ يكفر بالإِيمان‏}‏ بالله الذي يجب الإِيمان به ‏{‏فقد حبط عمله‏}‏ إذا مات على ذلك ‏{‏وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏ ممَّنْ خسر الثَّواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏6‏)‏ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ أَيْ‏:‏ إذا أردتم القيام إليها ‏{‏فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق‏}‏ يعني‏:‏ مع المرفقين ‏{‏وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏ وهما النَّاشزان من جانبي القدم ‏{‏وإن كنتم جنباً فاطَّهَروا‏}‏ فاغتسلوا ‏{‏وإن كنتم مرضى‏}‏ مفسَّرٌ في سورة النِّساء غلى قوله‏:‏ ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ من ضيقٍ في الدِّين، ولكنْ جعله واسعاً بالرُّخصة في التَّيمُّم ‏{‏ولكن يريد ليطهركم‏}‏ من الأحداث والجنابات والذُّنوب؛ لأنَّ الوضوء يكفِّر الذُّنوب ‏{‏وليتم نعمته عليكم‏}‏ ببيان الشَّرائع و‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ نعمتي فتطيعوا أمري‏.‏

‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم‏}‏ بالإِسلام ‏{‏وميثاقه الذي واثقكم به‏}‏ يعني‏:‏ حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّمع والطَّاعة في كلِّ ما أمر ونهى، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إذ قلتم‏}‏ ‏[‏حين قلتم‏]‏ ‏{‏سمعنا وأطعنا واتقوا الله إنَّ الله عليم بذات الصدور‏}‏ بخفيَّات القلوب‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله‏}‏ تقومون لله بكلِّ حقٍّ يلزمكم القيام به ‏{‏شهداء بالقسط‏}‏ تشهدون بالعدل ‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم‏}‏ لا يحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل ‏{‏اعدلوا‏}‏ في الوليِّ والعدوِّ ‏{‏هو‏}‏ أَيْ‏:‏ العدل ‏{‏أقرب للتقوى‏}‏ أَيْ‏:‏ لاتِّقاء النَّار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يعني‏:‏ ما أنعم الله على نبيِّه حين أتى اليهودَ هو وجماعة من أصحابه يستعينون بهم في دية، فتآمروا بينهم أن يطرحوا عليهم رحىً، فأعلمهم الله بذلك على لسان جبرائيل حتى خرجوا، ثمَّ أخبر عن نقض بني إسرائيل عهد الله، كما نقضت هذه الطَّبقة العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله حين همُّوا بالاغتيال به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏12‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل‏}‏ على أن يعملوا بما في التَّوراة ‏{‏وبعثنا‏}‏ وأقمنا بذلك ‏{‏منهم اثني عشر نقيباً‏}‏ كفيلاً وضميناً ضمنوا عن قومهم الوفاء بالعهد ‏{‏وقال الله‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إني معكم‏}‏ بالعون والنُّصرة ‏{‏لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم‏}‏ أَيْ‏:‏ وقَّرتموهم ‏{‏وأقرضتم الله قرضاً حسناً‏}‏ يريد‏:‏ الصَّدقات للفقراء والمساكين ‏{‏فمن كفر بعد ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ بعد هذا العهد والميثاق ‏{‏فقد ضلَّ سواء السبيل‏}‏ أخطأ قصد الطَّريق‏.‏

‏{‏فبما نقضهم‏}‏ فبنقضهم ‏{‏ميثاقهم‏}‏ وهو أنَّهم كذَّبوا الرُّسل بعد موسى فقتلوا الأنبياء، وضيَّعوا كتاب الله ‏{‏لعنَّاهم‏}‏ أخرجناهم من رحمتنا ‏{‏وجعلنا قلوبهم قاسية‏}‏ يابسة عن الإِيمان ‏{‏يحرفون الكلم‏}‏ يغيِّرون كلام الله ‏{‏عن مواضعه‏}‏ من صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في كتابهم وآية الرَّجم ‏{‏ونسوا حظاً مما ذكروا به‏}‏ وتركوا نصيباً ممَّا أمروا به في كتابهم من اتِّبَاع محمَّدٍ ‏{‏ولا تزال‏}‏ يا محمد ‏{‏تطلع على خائنة‏}‏ خيانة ‏{‏منهم‏}‏ مثل ما خانوك حين همُّوا بقتلك ‏{‏إلاَّ قليلاً منهم‏}‏ يعني‏:‏ مَنْ أسلم ‏{‏فاعفُ عنهم واصفح‏}‏ منسوخٌ بآية السَّيف ‏{‏إنَّ الله يحب المحسنين‏}‏ المتجاوزين‏.‏

‏{‏ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم‏}‏ كما أخذنا ميثاق اليهود ‏{‏فنسوا حظاً ممَّا ذكروا به‏}‏ فتركوا ما أُمروا به من الإِيمان بمحمَّد صلى الله عليه وسلم ‏{‏فأغرينا بينهم‏}‏ فألقينا بين اليهود والنصارى ‏{‏العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون‏}‏ وعيدٌ لهم، ثمَّ دعاهم إلى الإِيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 20‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏16‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏19‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنَّصارى ‏{‏قد جاءكم رسولنا‏}‏ محمَّد ‏{‏يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب‏}‏ تكتمون ممَّا في التَّوراة والإِنجيل، كآية الرَّجم، وصفة محمَّد عليه السَّلام ‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏ يتجاوز عن كثير فلا يخبركم بكتمانه ‏{‏قد جاءكم من الله نور‏}‏ يعني‏:‏ النبيَّ ‏{‏وكتاب مبين‏}‏ القرآن فيه بيانٌ لكلِّ ما تختلفون فيه‏.‏

‏{‏يهدي به الله‏}‏ يعني‏:‏ بالكتاب المبين ‏{‏مَنِ اتبع رضوانه‏}‏ اتَّبع ما رضيه الله من تصديق محمَّد عليه السَّلام ‏{‏سُبُل السلام‏}‏ طرق السَّلامة التي مَنْ سلكها سلم في دينه ‏{‏ويخرجهم من الظُّلمات‏}‏ الكفر ‏{‏إلى النور‏}‏ الإِيمان ‏{‏بإذنه‏}‏ بتوفيقه وإرادته ‏{‏ويهديهم إلى صراط مستقيم‏}‏ وهو الإِسلام‏.‏

‏{‏لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ يعني‏:‏ الذين اتَّخذوه إِلهاً ‏{‏قل فمن يملك من الله شيئاً‏}‏ فمَنْ يقدر أن يدفع من عذاب الله شيئاً ‏{‏إن أراد أن يهلك المسيح‏}‏ أَيْ‏:‏ يُعذِّبه، ولو كان إلهاً لقدر على دفع ذلك‏.‏

‏{‏وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ أَمَّا اليهود فإنّهم قالوا‏:‏ إنَّ الله من حِنَّتِهِ وعطفه علينا كالأب الشفيق، وأمَّا النَّصارى فإنَّهم تأوَّلوا قول عيسى‏:‏ إذا صلَّيتم فقولوا‏:‏ يا أبانا الذي في السَّماء تقدَّس اسمه، وأراد أنَّه في برِّه ورحمته بعباده الصالحين كالأب الرحيم‏.‏ وقيل‏:‏ أرادوا نحن أبناء رسل الله، وإنما قالوا هذا حين حذَّرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عقوبة الله، فقال الله‏:‏ ‏{‏قل فلمَ يعذِّبكم بذنوبكم‏}‏ أَيْ‏:‏ فلمَ عذَّب مَنْ قبلكم بذنوبهم، كأصحاب السَّبت وغيرهم ‏{‏بل أنتم بشرٌ ممَّن خلق‏}‏ كسائر بني آدم ‏{‏يغفر لمن يشاء‏}‏ لَمنْ تاب من اليهودية ‏{‏ويعذب من يشاء‏}‏ مَنْ مات عليها، وقوله‏:‏

‏{‏على فترة من الرسل‏}‏ على انقطاع من الأنبياء ‏{‏أن تقولوا‏}‏ لئلا تقولوا ‏{‏ما جاءنا من بشير ولا نذير‏}‏ وقوله‏:‏

‏{‏وجعلكم ملوكاً‏}‏ أَيْ‏:‏ جعل لكم الخدم والحشم، وهم أوَّل مَن ملك الخدم والحشم من بني آدم ‏{‏وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين‏}‏ من فلق البحر لكم، وإغراق عدوِّكم، والمنِّ والسَّلوى، وغير ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏يا قوم ادخلوا الأرض المقدَّسة‏}‏ المطهَّرة‏.‏ يعني‏:‏ الشَّام، وذلك أنَّها طُهِّرت من الشِّرك، وجُعلت مسكناً للأنبياء ‏{‏التي كتب الله لكم‏}‏ أمركم الله بدخولها ‏{‏ولا ترتدوا على أدباركم‏}‏ لا ترجعوا إلى دينكم الشِّركِ بالله‏.‏

‏{‏قالوا يا موسى إنَّ فيها قوماً جبارين‏}‏ طوالاً ذوي قوَّة، وكانوا من بقايا عادٍ يقال لهم العمالقة‏.‏

‏{‏قال رجلان‏}‏ هما يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا ‏{‏من الذين يخافون‏}‏ اللَّهَ في مخالفة أمره ‏{‏أنعم الله عليهما‏}‏ بالفضل واليقين ‏{‏ادخلوا عليهم الباب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وإنَّما قالا ذلك تيقُّناً بنصر الله، وإنجاز وعده لنبيِّه، فخالفوا نبيَّهم وعصوا أمر الله، وأتوا من القول بما فسقوا به، وهو قوله‏:‏

‏{‏قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون‏}‏ فقال موسى عند ذلك‏:‏

‏{‏لا أملك إلاَّ نفسي وأخي‏}‏ يقول‏:‏ لم يُطعني منهم إلاَّ نفسي وأخي ‏{‏فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏ فاقض بيننا وبين القوم العاصين، فحرَّم الله على الذين عصوا دخول القرية، وحبسهم في التِّيه أربعين سنةً حتى ماتوا، ولم يدخلها أحدٌ من هؤلاء، وإنَّما دخلها أولادهم، وهو قوله‏:‏

‏{‏فإنها محرَّمة عليهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يتيهون في الأرض‏}‏ يتحيَّرون فلا يهتدون للخروج منها ‏{‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏}‏ لا تحزن على عذابهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 32‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏27‏)‏ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏30‏)‏ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ‏(‏31‏)‏ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏واتل عليهم‏}‏ يعني‏:‏ على قومك ‏{‏نبأ‏}‏ خبر ‏{‏ابني آدم‏}‏ هابيل وقابيل ‏{‏إذ قرَّبا قرباناً‏}‏ تقرَّب إلى الله هابيل بخيرِ كبشٍ في غنمه، فنزلت من السَّماء نارٌ فاحتملته، فهو الكبش الذي فُدي به إسماعيل، وتقرَّب إلى الله قابيل بأردأ ما كان عنده من القمح، وكان صاحب زرع، فلم تحمل النَّار قربانه، والقربان‏:‏ اسمٌ لكلِّ ما يُتقرَّب به إلى الله، فقال الذي لم يُتقبَّلْْ منه‏:‏ ‏{‏لأقتلنك‏}‏ حسداً له، فقال هابيل‏:‏ ‏{‏إنما يتقبل الله من المتقين‏}‏ للمعاصي ‏[‏لا من العاصين‏]‏‏.‏

‏{‏لئن بَسَطتَ إليَّ يدك‏}‏ لئن بدأتني بالقتل فما أنا بالذي أبدؤك بالقتل ‏{‏إني أخاف الله‏}‏ في قتلك‏.‏

‏{‏إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك‏}‏ أَنْ تحتمل إثم قتلي وإثم الذي كان منك قبل قتلي‏.‏

‏{‏فَطَوَّعَتْ له نفسه قتل أخيه‏}‏ سهَّلته وزيَّنت له ذلك ‏{‏فقتله فأصبح من الخاسرين‏}‏ خسر دنياه بإسخاط والديه، وآخرته بسخط الله عليه، فلمَّا قتله لم يدرِ ما يصنع به؛ لأنَّه كان أوَّل ميِّت على وجه الأرض من بني آدم، فحمله في جرابٍ على ظهره‏.‏

‏{‏فبعث الله غراباً يبحث في الأرض‏}‏ يثير التُّراب من الأرض على غرابٍ ميِّتٍ ‏{‏ليريه كيف يواري‏}‏ يستر ‏{‏سوءة‏}‏ جيفة ‏{‏أخيه‏}‏ فلمَّا رأى ذلك قال‏:‏ ‏{‏يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فَأُوَارِيَ سوءة أخي فأصبح من النادمين‏}‏ على حمله والتَّطوف به‏.‏

‏{‏من أجل ذلك‏}‏ من سبب ذلك الذي فعل قابيل ‏{‏كتبنا‏}‏ فرضنا ‏{‏على بني إسرائيل أنَّه مَنْ قتل نفساً بغير نفسٍ‏}‏ بغير قَوَدٍ ‏{‏أو فسادٍ‏}‏ شركٍ ‏{‏في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً‏}‏ يُقتل كما لو قتلهم جميعاً، ويصلى النَّار كما يصلاها لو قتلهم ‏{‏ومَن أحياها‏}‏ حرَّمها وتورَّع عن قتلها ‏{‏فكأنما أحيا الناس جميعاً‏}‏ لسلامتهم منه؛ لأنَّه لا يستحلُّ دماءهم ‏{‏ولقد جاءتهم‏}‏ يعني‏:‏ بني إسرائيل ‏{‏رسلنا بالبينات‏}‏ بأنَّ لهم صدق ما جاؤوهم به ‏{‏ثم إنَّ كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون‏}‏ أَيْ‏:‏ مجاوزون حدَّ الحقِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 40‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏33‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏34‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏36‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏37‏)‏ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏38‏)‏ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏39‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله‏}‏ أَيْ‏:‏ يعصونهما ولا يطيعونهما‏.‏ يعني‏:‏ الخارجين على الإِمام وعلى الأمَّة بالسَّيف‏.‏ نزلت هذه الآية في قصة العُرَنيين، وهي معروفةٌ، تعليماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقوبة مَن فعل مثل فعلهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ويسعون في الأرض فساداً‏}‏ بالقتل وأخذ الأموال ‏{‏أن يقتلوا أو يصلبوا أن تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض‏}‏ معنى ‏"‏ أو ‏"‏ ها هنا الإِباحة، فاللإِمام أن يفعل ما أراد من هذه الأشياء، ومعنى النَّفي من الأرض الحبسُ في السِّجن؛ لأنَّ المسجون بمنزلة المُخرج من الدُّنيا ‏{‏ذلك لهم خزي‏}‏ هوانٌ وفضيحةٌ ‏{‏في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏ وهذا للكفَّار الذين نزلت فيهم الآية؛ لأنَّ العُرنيين ارتدُّوا عن الدِّين، والمسلم إذا عوقب في الدُّنيا بجنايته صارت مكفَّرةً عنه‏.‏

‏{‏إلاَّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‏}‏ آمنوا من قبل أن تعاقبوهم فالله غفورٌ رحيمٌ لهم‏.‏ هذا في المشرك المحارب إذا آمن قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود، فأمَّا المسلم المحارب إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه سقط عنه حدود الله، ولا تسقط حقوق بني آدم‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا‏}‏ عقاب ‏{‏الله‏}‏ بالطَّاعة ‏{‏وابتغوا إليه الوسيلة‏}‏ تقرَّبوا إليه بطاعته ‏{‏وجاهدوا‏}‏ العدوَّ ‏{‏في سبيله‏}‏ في طاعته ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ كي تسعدوا وتبقوا في الجنَّة‏.‏

‏{‏إنَّ الذين كفروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ظاهرة‏.‏

‏{‏يريدون‏}‏ يتمنَّون بقلوبهم ‏{‏أن يخرجوا من النار‏}‏‏.‏

‏{‏والسارق والسارقةُ فاقطعوا أيديهما‏}‏ يمينَ هذا ويمين هذه، فجمع ‏{‏جَزَاءً بما كسبا‏}‏ أَيْ‏:‏ بجزاء فعلهما ‏{‏نكالاً‏}‏ عقوبةً ‏{‏من الله والله عزيز‏}‏ في انتقامه ‏{‏حكيم‏}‏ فيما أوجب من القطع‏.‏

‏{‏فمن تاب من بعد ظلمه‏}‏ النَّاس ‏{‏وأصلح‏}‏ العمل بعد السَّرقة ‏{‏فإنَّ الله يتوب عليه‏}‏ يعود عليه بالرَّحمة‏.‏

‏{‏ألم تعلم أنَّ الله له ملك السموات والأرض يعذب مَنْ يشاء‏}‏ على الذَّنب الصَّغير ‏{‏ويغفر لمن يشاء‏}‏ الذَّنب العظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 43‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏41‏)‏ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏42‏)‏ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏ إذ كنت موعودَ النَّصر عليهم، وهم المنافقون، وبان لهم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون‏}‏ أَيْ‏:‏ فريقٌ سمَّاعون ‏{‏للكذب‏}‏ يسمعون منك ليكذبوا عليك، فيقولون‏:‏ سمعنا منه كذا وكذا لما لمْ يسمعوا ‏{‏سماعون لقوم آخرين لم يأتوك‏}‏ أَيْ‏:‏ هم عيونٌ لأولئك الغُيَّب ينقلون إليهم أخبارك ‏{‏يحرفون الكلم من بعد مواضعه‏}‏ من بعد أن وضعه الله مواضعه‏.‏ يعني‏:‏ آية الرَّجم‏.‏ ‏{‏يقولون‏:‏ إن أوتيتم هذا فخذوه‏}‏ يعني‏:‏ يهود خيبر بالجلد، وهم الذين ذكروا في قوله‏:‏ ‏{‏لقوم آخرين لم يأتوك‏}‏ وذلك أنَّهم بعثوا إلى قريظة ليستفتوا محمداً صلى الله عليه وسلم في الزَّانيين المحصنين، وقالوا لهم‏:‏ إنْ أفتى بالجلد فاقبلوا، وإن أفتى بالرَّجم فلا تقبلوا، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏إن أوتيتم هذا‏}‏ يعني‏:‏ الجلد ‏{‏فخذوه‏}‏ فاقبلوه ‏{‏وإن لم تؤتوه فاحذروا‏}‏ أن تعملوا به ‏{‏ومن يرد الله فتنته‏}‏ ضلالته وكفره ‏{‏فلن تملك له من الله شيئاً‏}‏ لن تدفع عنه عذاب الله ‏{‏أولئك الذين‏}‏ أَيْ‏:‏ مَنْ أراد الله فتنته فهم الذين ‏{‏لم يرد الله أن يطهر قلوبهم‏}‏ أن يُخلِّص نيَّاتهم ‏{‏لهم في الدنيا خزيٌ‏}‏ بهتك ستورهم ‏{‏ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏ وهو النَّار‏.‏

‏{‏سماعون للكذب أكالون للسحت‏}‏ وهو الرِّشوة في الحكم‏.‏ يعني‏:‏ حكَّام اليهود، يسمعون الكذب ممَّنْ يأتيهم مُبطلاً، ويأخذون الرِّشوة منه فيأكلونها ‏{‏فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏ خيَّر الله نبيَّه في الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه، ثمَّ نسخ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وأن احكم بينهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏وكيف يحكمونك‏}‏ عجَّب الله نبيَّه عليه السَّلام من تحكيم اليهود إيَّاه بعد علمهم بما في التَّوراة من حكم الزَّاني وحدِّه، وقوله‏:‏ ‏{‏فيها حكم الله‏}‏ يعني‏:‏ الرَّجم ‏{‏ثمَّ يتولون من بعد ذلك‏}‏ التَّحكيم فلا يقبلون حكمك بالرَّجم ‏{‏وما أولئك‏}‏ الذين يُعرِضون عن الرَّجم ‏{‏بالمؤمنين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏44‏)‏ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏45‏)‏ وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً‏}‏ بيان الحكم الذي جاؤوك يستفتونك فيه ‏{‏ونور‏}‏ بيانٌ إنَّ أمرك حَقٌّ ‏{‏يحكم بها النبيون‏}‏ من لدن موسى إلى عيسى، وهم ‏{‏الذين أسلموا‏}‏ أَي‏:‏ انقادوا لحكم التَّوراة ‏{‏للذين هادوا‏}‏ تابوا من الكفر، وهم بنو إسرائيل إلى زمن عيسى ‏{‏والربانيون‏}‏ العلماء ‏{‏والأحبار‏}‏ الفقهاء ‏{‏بما استحفظوا‏}‏ استرعوا ‏[‏أَيْ‏:‏ بما كُلِّفُوا حفظه من كتاب الله‏.‏ وقيل‏:‏ العمل بما فيه، وذلك حفظه‏]‏ ‏{‏من كتاب الله وكانوا عليه شهداء‏}‏ أنَّه من عند الله، ثمَّ خاطب اليهود فقال‏:‏ ‏{‏فلا تخشوا الناس‏}‏ في إظهار صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم والرَّجم ‏{‏واخشون‏}‏ في كتمان ذلك ‏{‏ولا تشتروا بآياتي‏}‏ بأحكامي وفرائضي ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏ يريد‏:‏ متاع الدُّنيا ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ نزلت في مَنْ غيرَّ حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها ومن اللتين بعدها شيءٌ‏.‏

‏{‏وكتبنا عليهم فيها‏}‏ وفرضنا عليهم في التَّوراة ‏{‏أنَّ النفس‏}‏ تُقتل ‏{‏بالنفس، والعين بالعين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ كلُّ شخصين جرى القصاص بينهما في النَّفس جرى القصاص بينهما في جميع الأعضاء والأطراف إذا تماثلا في السَّلامة، وقوله‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏ في كلِّ ما يمكن أن يُقتصَّ فيه، مثل الشَّفتين، والذَّكَر، والأُنثيين، والأليتين، والقدمين، واليدين، وهذا تعميمٌ بعد التَّفصيل بقوله‏:‏ ‏{‏العين بالعين والأنف بالأنف‏}‏‏.‏ ‏{‏فمن تصدَّق به فهو كفارة له‏}‏ مَنْ عفا وترك القصاص فهو مغفرةٌ له عند الله، وثواب عظيم‏.‏

‏{‏وقفينا على آثارهم بعيسى‏}‏ أَيْ‏:‏ جعلناه يقفو آثار النَّبيِّين‏.‏ يعني‏:‏ بعثناه بعدهم على آثارهم ‏{‏مصدقاً لما بين يديه من التوراة‏}‏ يُصدِّق أحكامها ويدعو إليها ‏{‏وآتيناه الإِنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدىً وموعظة‏}‏ معناه‏:‏ وهادياً وواعظاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 51‏]‏

‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏47‏)‏ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏48‏)‏ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ‏(‏49‏)‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وليحكم أهل الإِنجيل‏}‏ أَيْ‏:‏ وقلنا لهم‏:‏ ليحكموا بهذا الكتاب في ذلك الوقت‏.‏

‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏}‏ أَيْ‏:‏ شاهداً وأميناً، ‏[‏وحفيظاً ورقيباً‏]‏ على الكتب التي قبله، فما أخبر أهل الكتاب بأمرٍ؛ فإنْ كان في القرآن فصدِّقوا، وإلأَّ فكذِّبوا ‏{‏فاحكم بينهم‏}‏ بين اليهود ‏{‏بما أنزل الله‏}‏ بالقرآن والرَّجم ‏{‏ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق‏}‏ يقول‏:‏ لا تتَّبعهم عمَّا عندك من الحقِّ، فتتركه وتتَّبعهم ‏{‏لكلٍّ جعلنا منكم‏}‏ من أُمَّة موسى وعيسى ومحمَّد صلَّى الله عليهم أجمعين ‏{‏شرعة ومنهاجاً‏}‏ سبيلاً وسنَّة، فللتَّوراة شريعة، وللإِنجيل شريعة، وللقرآن شريعة ‏{‏ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة‏}‏ على أمرٍ واحدٍ ملَّة الإِسلام ‏{‏ولكن ليبلوكم‏}‏ ليختبركم ‏{‏فيما آتاكم‏}‏ أعطاكم من الكتاب والسُّنن ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ سارعوا إلى الأعمال الصَّالحة ‏[‏الزَّاكية‏]‏ ‏{‏إلى الله مرجعكم جميعاً‏}‏ أنتم وأهل الكتاب ‏{‏فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون‏}‏ من الدِّين والفرائض والسُّنن‏.‏ يعني‏:‏ إنَّ الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الشُّكوك بما يحصل من اليقين‏.‏

‏{‏واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك‏}‏ أَيْ‏:‏ يَسْتَزِلُّوكَ عن الحقِّ إلى أهوائهم‏.‏ نزلت حين قال رؤساء اليهود بعضهم لبعض‏:‏ انطلقوا بنا إلى محمد لعلَّنا نفتنه، فنزدَّه عمَّا هو عليه، فأتوه وقالوا له‏:‏ قد علمت أنَّا إن اتَّبعناك اتَّبعك النَّاس، ولنا خصومةٌ فاقض لنا على خصومنا إذا تحاكمنا إليك، ونحن نؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ فإن أعرضوا عن الإِيمان، والحكم بالقرآن فاعلم أنَّ ذلك من أجل أنَّ الله يريد أن يعجِّل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم‏]‏ ويجازيهم في الآخرة بجميعها، ثمَّ كان تعذيبهم في الدُّنيا الجلاء والنَّفي ‏{‏وإنَّ كثيراً من الناس لفاسقون‏}‏ يعني‏:‏ اليهود‏.‏

‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏ أَيْ‏:‏ أيطلب اليهود في الزَّانيين حكماً لم يأمر الله به، وهم أهل كتاب، كما فعل أهل الجاهليَّة‏؟‏‏!‏ ‏{‏ومَنْ أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون‏}‏ أَي‏:‏ مَنْ أيقن تبيَّن عدل الله في حكمه، ثمَّ نهى المؤمنين عن موالاة اليهود، وأوعد عليها بقوله‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 54‏]‏

‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض‏}‏ يعني‏:‏ عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه ‏{‏يسارعون فيهم‏}‏ في مودَّة أهل الكتاب ومعاونتهم على المسلمين بإلقاء أخبارهم إليهم ‏{‏يقولون‏:‏ نخشى أن تصيبنا دائرة‏}‏ أَيْ‏:‏ يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها‏.‏ يعنون‏:‏ الجدب فتنقطع عنا الميرة والقرض ‏{‏فعسى الله أن يأتي بالفتح‏}‏ يعني‏:‏ لمحمدٍ على جميع مَنْ خالفه ‏{‏أو أمرٍ من عنده‏}‏ بقتل المنافقين، وهتك سترهم ‏{‏فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم‏}‏ يعني‏:‏ أهل النِّفاق على ما أضمروا من ولاية اليهود، ودسِّ الأخبار إليهم ‏{‏نادمين‏}‏‏.‏

‏{‏ويقول الذين آمنوا‏}‏ المؤمنون إذا هتك الله ستر المنافقين‏:‏ ‏{‏أهؤلاء‏}‏ يعنون‏:‏ المنافقين ‏{‏الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏ حلفوا بأغلظ الأيمان ‏{‏إنهم لمعكم‏}‏ إنَّهم مؤمنون وأعوانكم على مَنْ خالفكم ‏{‏حبطت أعمالهم‏}‏ بطل كلُّ خيرٍ عملوه بكفرهم ‏{‏فأصبحوا خاسرين‏}‏ صاروا إلى النَّار، وورث المؤمنون منازلهم من الجنَّة‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه‏}‏ علم الله تعالى أنَّ قوماً يرجعون عن الإِسلام بعد موت نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم تعالى أنَّه س ‏{‏يأتي اللَّهُ بقوم يحبهم ويحبونه‏}‏ وهم أبو بكر رضي الله عنه وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرِّدة ‏{‏أذلة على المؤمنين‏}‏ كالولد لوالده، والعبد لسيِّده ‏{‏أعزة على الكافرين‏}‏ غلاظٍ عليهم، كالسَّبع على فريسته ‏{‏يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم‏}‏ كالمنافقين الذين كانوا يرقبون الكافرين، ويخافون لومهم في نصرة الدِّين ‏{‏ذلك فضل الله‏}‏ أَيْ‏:‏ محبَّتهم لله عزَّ وجلَّ، ولين جانبهم للمسلمين، وشدَّتهم على الكفَّار بفضلٍ من الله عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 61‏]‏

‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏إنما وليكم الله ورسوله‏}‏ نزلت لمَّا هجر اليهود مَنْ أسلم منهم، فقال عبد الله بن سلام‏:‏ يا رسول الله، إنَّ قومنا قد هجرونا، وأقسموا ألا يجالسونا، فنزلت هذه الآية، فقال‏:‏ رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء، وقوله‏:‏ ‏{‏وهم راكعون‏}‏ يعني‏:‏ صلاة التَّطوع‏.‏

‏{‏ومن يَتَوَلَّ الله ورسوله‏}‏ يتولَّى القيام بطاعته ونصرة رسوله والمؤمنين ‏{‏فإنَّ حزب الله‏}‏ جند الله وأنصار دينه ‏{‏هم الغالبون‏}‏ غلبوا اليهود فأجلوهم من ديارهم، وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولَّوا اللَّهَ ورسوله‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في رجالٍ كانوا يوادُّون منافقي اليهود، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏اتَّخذوا دينكم هزواً ولعباً‏}‏ إظهارهم ذلك باللِّسان، واستبطانهم الكفر تلاعباً واستهزاءً ‏{‏والكفار‏}‏ يعني‏:‏ مشركي العرب وكفَّار مكَّة ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فلا تتَّخذوا منهم أولياء ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ بوعده ووعيده‏.‏

‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة‏}‏ دعوتم النَّاس إليها بالأذان ‏{‏اتخذوها هزواً ولعباً‏}‏ تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السُّخف والمجون تجهيلاً لأهلها ‏{‏ذلك بأنهم قوم لا يعقلون‏}‏ ما لهم في إجابتها لو أجابوا إليها، وما عليهم في استهزائهم بها‏.‏

‏{‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏[‏أي‏:‏ هل تنكرون وتكرهون‏]‏‏.‏ أتي نفرٌ من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمَّن يُؤمن به من الرُّسل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ أؤمنُ بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرِّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ‏"‏، فلمَّا ذكر عيسى جحدوا نبوَّته، وقالوا‏:‏ ما نعلم ديناً شرَّاً من دينكم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏هل تنقمون‏}‏ أَي‏:‏ هل تكرهون وتنكرون منا إلاَّ إيماننا وفسقكم، أَيْ‏:‏ إنَّما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أننا على حقٍّ، لأنَّكم قد فسقتم، بأن أقمتم على دينكم لمحبَّتكم الرِّئاسة، وكسبكم بها الأموال، وتقدير قوله‏:‏ ‏{‏وأنًّ أكثركم فاسقون‏}‏ ولأنَّ أكثركم، والواو زائدةٌ، والمعنى‏:‏ لفسقكم نقمتم علينا الإِيمان، قوله‏:‏

‏{‏قل هل أنبئكم‏}‏ أخبركم، جوابٌ لقول اليهود‏:‏ ما نعرف أهل دين شراً منكم، فقال الله‏:‏ ‏{‏هل أنبئكم‏}‏ أخبركم ‏{‏بشرٍّ من‏}‏ ذلكم المسلمين الذين طعنتم عليهم ‏{‏مثوبة‏}‏ جزاءً وثواباً ‏{‏عند الله‏؟‏ مَنْ لعنه الله‏}‏ أَيْ‏:‏ هو مَنْ لعنه الله‏:‏ أبعده عن رحمته ‏{‏وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب السَّبت ‏{‏وعبد الطاغوت‏}‏ ‏[‏نسقٌ على ‏{‏لعنه الله‏}‏ وعبد الطاغوت‏:‏‏]‏ أطاع الشَّيطان فيما سوَّله له‏.‏ ‏{‏أولئك شر مكاناً‏}‏ لأنَّ مكانهم سَقَر ‏{‏وأضل عن سواء السبيل‏}‏ قصد الطَّريق، وهو دين الحنيفيَّة، فلمَّا نزلت هذه الآية عيَّر المسلمون اليهود، وقالوا‏:‏ يا إخوان القردة والخنازير، فسكتوا وافتضحوا‏.‏

‏{‏وإذا جاؤوكم قالوا آمنا‏}‏ يعني‏:‏ منافقي اليهود ‏{‏وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به‏}‏ أَيْ‏:‏ دخلوا وخرجوا كافرين، والكفر معهم في كِلْتي حالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 69‏]‏

‏{‏وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏67‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان‏}‏ يجترئون على الخطأ والظُّلم، ويبادرون إليه ‏{‏وأكلهم السُّحت‏}‏ ما كانوا يأخذونه من الرَّشا على كتمان الحقِّ، ثمَّ ذمَّ فعلهم بقوله‏:‏ ‏{‏لبئس ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏

‏{‏لولا‏}‏ ‏[‏هلاَّ‏]‏ ‏{‏ينهاهم‏}‏ عن قبح فعلهم ‏{‏الربانيون والأحبار‏}‏ علماؤهم وفقهاؤهم ‏{‏لبئس ما كانوا يصنعون‏}‏ حين تركوا النَّكير عليهم‏.‏

‏{‏وقالت اليهود يد الله مغلولة‏}‏ مقبوضةٌ عن العطاء وإسباغ النِّعم علينا‏.‏ قالوا هذا حين كفَّ الله تعالى عنهم بكفرهم بمحمَّد عليه السَّلام ما كان يسلِّط عليهم من الخِصب والنِّعمة، فقالوا- لعنهم الله على جهة الوصف بالبخل-‏:‏ ‏{‏يد الله مغلولة‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏غلت أيديهم‏}‏ أَيْ‏:‏ جعلوا بخلاء وأُلزموا البخل، فهم أبخل قوم ‏{‏ولعنوا بما قالوا‏}‏ عُذِّبوا في الدُّنيا بالجِزية ‏[‏والذلَّة والصَّغار، والقحط والجلاء‏]‏، وفي الآخرة بالنَّار ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ الوصف بالمبالغة في الجود والإِنعام‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ نِعمُه مبسوطةٌ، ودلَّت التَّثنية على الكثرة، كقولهم‏:‏ ‏[‏لبيك وسعديك‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ نعمتاه، أَيْ‏:‏ نعمة الدُّنيا، ونعمة الآخرة ‏{‏مبسوطتان ينفق كيف يشاء‏}‏ يرزق كما يريد؛ إن شاء قتَّر، وإنْ شاء وسَّع ‏{‏وليزيدَّن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً‏}‏ كلَّما أنزل عليك شيءٌ من القرآن كفروا به، فيزيد كفرهم ‏{‏وألقينا بينهم العداوة والبغضاء‏}‏ بين طوائف اليهود، وجعلهم الله مختلفين متباغضين، كما قال‏:‏ ‏{‏تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتَّى‏}‏ ‏{‏كلما أَوْقَدُوا ناراً للحرب أطفأها الله‏}‏ كلَّما أرادوا محاربتك ردَّهم الله، وألزمهم الخوف ‏{‏ويسعون في الأرض فساداً‏}‏ يعني‏:‏ يجتهدون في دفع الإِسلام، ومحو ذكر النبيِّ صلى الله عليه وسلم من كتبهم‏.‏

‏{‏ولو أنَّ أهل الكتاب آمنوا‏}‏ بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ‏{‏واتقوا‏}‏ اليهوديَّة والنصرانيَّة ‏{‏لكفَّرنا عنهم سيئاتهم‏}‏ كلَّ ما صنعوا قبل أن تأتيهم‏.‏

‏{‏ولو أنهم أقاموا التوراة والإِنجيل‏}‏ عملوا بما فيهما من التَّصديق بك ‏{‏وما أنزل إليهم‏}‏ من كتب أنبيائهم ‏{‏لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ لأنزلتُ عليهم القطر، وأخرجتُ لهم من نبات الأرض كلَّما أرادوا ‏{‏منهم أمة مقتصدة‏}‏ مؤمنةٌ‏.‏

‏{‏يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تراقبنَّ أحداً، ولا تتركنَّ شيئاً ممَّا أُنزل إليك تخوُّفاً مِنْ أَنْ ينالك مكروهٌ‏.‏ بلِّغ الجميع مجاهراً به ‏{‏وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏}‏ إنْ كتمت آية ممَّا أنزلتُ إليك لم تبلِّغ رسالتي‏.‏ يعني‏:‏ إنَّه إنْ ترك بلاغ البعض كان كمَنْ لم يُبلِّغ ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ أن ينالوك بسوء‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشفق على نفسه غائلة اليهود والكفَّار، وكان لا يُجاهرهم بعيب دينهم وسبِّ آلهتهم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ فقال‏:‏ يا ربِّ، كيف أصنع وأنا واحدٌ أخاف أن يجتمعوا عليَّ‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ لا يرشد مَنْ كذَّبك‏.‏

‏{‏قل يا أهل الكتاب لستم على شيء‏}‏ من الدِّين ‏{‏حتى تُقيموا‏}‏ حتى تعملوا بما في الكتابين من الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته، وباقي الآية مضى تفسيره إلى قوله‏:‏ ‏{‏فلا تأس على القوم الكافرين‏}‏ يقول‏:‏ لا تحزن على أهل الكتاب إنْ كذَّبوك‏.‏

‏{‏إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا‏}‏ سبق تفسيره في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وحسبوا ألا تكون فتنة‏}‏ ظنُّوا وقدَّروا إلا تقع بهم عقوبة، وعذابٌ في الإِصرار على الكفر بقتل الأنبياء، وتكذيب الرُّسل ‏{‏فعموا وصموا‏}‏ عن الهدى فلم يعقلوه ‏{‏ثمَّ تاب الله عليهم‏}‏ بإرساله محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الصِّراط المستقيم ‏{‏ثمَّ عموا وصموا كثيرٌ منهم‏}‏ بعد تبيُّن الحقِّ لهم بمحمَّد عليه السَّلام ‏{‏والله بصيرٌ بما يعملون‏}‏ من قتل الأنبياء وتكذيب الرُّسل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله ثالث ثلاثة‏}‏ أَيْ‏:‏ ثالث ثلاثةٍ من الآلهة، والمعنى‏:‏ أنَّهم قالوا‏:‏ اللَّهُ واحدُ ثلاثةِ آلهة‏:‏ هو، والمسيح، ومريم؛ فزعموا أنَّ الإِلهيَّة مشتركة بين هؤلاء الثلاثة، فكفروا بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 80‏]‏

‏{‏مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏75‏)‏ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏76‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏77‏)‏ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏78‏)‏ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏79‏)‏ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏ما المسيحُ ابن مريم إلاَّ رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّه رسولٌ ليس بإلهٍ، كما أنَّ مَنْ قبله كانوا رسلاً ‏{‏وأمه صديقة‏}‏ صدَّقت بكلمات ربِّها وكتبه ‏{‏كانا يأكلان الطعام‏}‏ يريد‏:‏ هما لحمٌ ودمٌ يأكلان ويشربان، ويبولان ويتغوَّطان، وهذه ليست من أوصاف الإِلهيَّة ‏{‏انظر كيف نبيِّن لهم الآيات‏}‏ نفسِّر لهم أمر ربوبيتي ‏{‏ثم انظر أنى يؤفكون‏}‏ يُصرفون عن الحقِّ الذي يؤدِّي إليه تدبُّر الآيات‏.‏

‏{‏قل‏}‏ للنَّصارى‏:‏ ‏{‏أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً‏}‏ يعني‏:‏ المسيح؛ لأنَّه لا يملك ذلك إلاَّ الله عزَّ وجلَّ ‏{‏والله هو السميع‏}‏ لكفركم ‏{‏العليم‏}‏ بضميركم‏.‏

‏{‏قل يا أهل الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنَّصارى ‏{‏لا تغلوا في دينكم‏}‏ لا تخرجوا عن الحدِّ في عيسى، وغُلوُّ اليهود فيه بتكذيبهم إيَّاه، ونسبته إلى أنَّه لغير رِشدة، وغُلوُّ النصارى فيه ادِّعاؤهم الإِلهيَّة له، قوله‏:‏ ‏{‏غير الحق‏}‏ أَيْ‏:‏ مخالفين للحق ‏{‏ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل‏}‏ يعني‏:‏ رؤساءهم الذين مضوا من الفريقين‏:‏ أَيْ‏:‏ لا تتبعوا أسلافكم فيما ابتدعوه بأهوائهم ‏{‏وضلوا عن سواء السبيل‏}‏ عن قصد الطَّريق بإضلالهم الكثير‏.‏

‏{‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب السَّبت، وأصحاب المائدة ‏{‏على لسان داود‏}‏ لأنَّهم لمَّا اعتدوا قال داود عليه السَّلام‏:‏ اللَّهم العنهم واجعلهم آيةً لخلقك، فمسخوا قردة ‏[‏على لسان داود‏]‏ ‏{‏وعيسى ابن مريم‏}‏ عليه السَّلام؛ لأنَّه لعن مَنْ لم يؤمن من أصحاب المائدة، فقال‏:‏ اللهم العنهم كما لعنتَ السَّبت، فمسخوا خنازير‏.‏

‏{‏كانوا لا يتناهون‏}‏ لا ينتهون ‏{‏عن منكر فعلوه‏}‏‏.‏

‏{‏ترى كثيراً منهم‏}‏ من اليهود ‏{‏يتولون الذين كفروا‏}‏ كفَّار مكة ‏{‏لبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم‏}‏ بئسما قدَّموا من العمل لمعادهم في الآخرة سُخطَ الله عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 84‏]‏

‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏83‏)‏ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏لتجدنَّ‏}‏ يا محمد ‏{‏أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود‏}‏ وذلك أنَّهم ظاهروا المشركين على المؤمنين حسداً للنبيِّ عليه السَّلام ‏{‏ولتجدنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى‏}‏ يعني‏:‏ النَّجاشي ووفده الذين قدموا من الحبشة على رسول الله صلى الله وعليه وسلم وآمنوا به، ولم يرد جميع النَّصارى ‏{‏ذلك‏}‏ ‏[‏يعني‏:‏ قرب المودَّة‏]‏ ‏{‏بأنَّ منهم قسيسين ورهباناً‏}‏ أَيْ‏:‏ علماء بوصاة عيسى بالإِيمان بمحمَّد عليه السَّلام ‏{‏وأنهم لا يستكبرون‏}‏ عن اتِّباع الحقِّ كما يستكبر اليهود وعبدة الأوثان‏.‏

‏{‏وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول‏}‏ يعني‏:‏ النجاشيَّ وأصحابه، قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة ‏{‏كهعيص‏}‏ فما زالوا يبكون، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ترى أعينهم تَفيضُ من الدمع ممَّا عرفوا من الحق‏}‏ يريد‏:‏ الذي نزل على محمَّد وهو الحقُّ ‏{‏يقولون ربنا آمنا‏}‏ وصدَّقنا ‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ مع أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحقِّ‏.‏

‏{‏ومالنا لا نؤمن بالله‏}‏ أَيْ‏:‏ أيُّ شيءٍ لنا إذا تركنا الإِيمان بالله ‏{‏وما جاءنا من الحق‏}‏ أَيْ‏:‏ القرآن ‏{‏و‏}‏ نحن ‏{‏نطمع أن يدخلنا ربنا‏}‏ الجنَّة مع أمَّة محمَّد عليه السَّلام‏.‏ يعنون‏:‏ أنَّهم لا شيء لهم إذا لم يؤمنوا بالقرآن، ولا يتحقق طمعهم في دخول الجنَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 87‏]‏

‏{‏فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏86‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏فأثابهم الله بما قالوا‏}‏ يعني‏:‏ بما سألوا الله من قولهم‏:‏ ‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏ونطمع أن يدخلنا ربنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ الثَّواب‏]‏ ‏{‏جزاء المحسنين‏}‏ الموحِّدين، ثمَّ ذكر الوعيد لمَنْ كفر من أهل الكتاب وغيرهم، فقال‏:‏

‏{‏والذين كفروا وكَذَّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلَّ الله لكم‏}‏ هم قومٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم تعاهدوا أن يحرِّموا على أنفسهم المطاعم الطَّيِّبة، وأن يصوموا النَّهار ويقوموا اللَّيل، ويُخْصُوا أنفسهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وسمَّى الخِصاء اعتداءً، فلمَّا نزلت هذه الآية قالوا‏:‏ يا رسول الله، إنَّا كنَّا قد حلفنا على ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 91‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏89‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ وفسَّرْنا هذا في سورة البقرة ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان‏}‏ وهو أن يقصد الأمر، فيحلف بالله ويعقد عليه اليمين بالقلب متعمِّداً ‏{‏فكفارته‏}‏ إذا حنثتم ‏{‏إطعام عشرة مساكين‏}‏ لكلِّ مسكين مدٌّ، وهو ‏[‏رطلٌ وثلث،‏]‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏ لأنَّ هذا القدر وسط في الشِّبع‏.‏ وقيل‏:‏ من خير ما تطعمون أهليكم، كالحنطة والتمر ‏{‏أو كسوتهم‏}‏ وهو أقلُّ ما يقع عليه اسم الكسوة من إزارٍ، ورداءٍ، وقميصٍ ‏{‏أو تحرير رقبة‏}‏ يعني‏:‏ مؤمنة، والمُكفِّر في اليمين مُخيَّر بين هذه الثَّلاث ‏{‏فمن لم يجد‏}‏ يعني‏:‏ لم يفضل من قوته وقوت عياله يومه وليلته ما يطعم عشرة مساكين ‏{‏ف‏}‏ عليه ‏{‏صيام ثلاثة أيام‏}‏ ‏{‏واحفظوا أيمانكم‏}‏ فلا تحلفوا، واحفظوها عن الحنث‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر‏}‏ يعني‏:‏ الأشربة التي تخمَّر حتى تشتدَّ وتُسْكِر ‏{‏والميسر‏}‏ القمار بجميع أنواعه ‏{‏والأنصاب‏}‏ الأوثان ‏{‏والأزلام‏}‏ قداح الاستقسام التي ذُكرت في أوَّل السُّورة ‏{‏رجسٌ‏}‏ قذرٌ قبيحٌ ‏{‏من عمل الشيطان‏}‏ ممَّا يسِّوله الشِّيطان لبني آدم ‏{‏فاجتنبوه‏}‏ كونوا جانباً منه‏.‏

‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر‏}‏ وذلك لما يحصل بين أهلها من العداوة والمقابح، والإِقدام على ما يمنع منه العقل ‏{‏ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة‏}‏ لأنَّ مَن اشتغل بهما منعاه عن ذكر الله والصَّلاة ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ ‏[‏استفهامٌ بمعنى الأمر‏]‏ قالوا‏:‏ انتهينا، ثمَّ أمر بالطَّاعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 96‏]‏

‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏92‏)‏ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏93‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏94‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏95‏)‏ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا‏}‏ المحارم والمناهي ‏{‏فإن توليتم‏}‏ عن الطَّاعة ‏{‏فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين‏}‏ فليس عليه إلاَّ البلاغ، فإن أطعتم وإلاَّ استحققتم العقاب، فلمَّا نزل تحريم الخمر قالوا‏:‏ يا رسول الله، ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربونها، ويأكلون الميسر‏؟‏ فنزل‏:‏

‏{‏ليس على الذين آمنوا وعلموا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ من الخمر والميسر قبل التحريم ‏{‏إذا ما اتقوا‏}‏ المعاصي والشِّرك ‏{‏ثمَّ اتقوا‏}‏ داموا على تقواهم ‏{‏ثم اتقوا‏}‏ ظلم العباد من ضمِّ الإِحسان إليه‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد‏}‏ كان هذا عام الحديبية، كانت الوحش والطيَّر تغشاهم في رحالهم كثيرة، وهم مُحْرِمون ابتلاءً من الله تعالى‏.‏ ‏{‏تناله أيديكم‏}‏ يعني‏:‏ الفراخ والصِّغار ‏{‏ورماحكم‏}‏ يعني‏:‏ الكبار ‏{‏ليعلم الله‏}‏ ليرى الله ‏{‏مَنْ يخافه بالغيب‏}‏ أَيْ‏:‏ مَنْ يخاف الله ولم يره ‏{‏فمن اعتدى‏}‏ ظلم بأخذ الصَّيد ‏{‏بعد ذلك‏}‏ بعد النَّهي ‏{‏فله عذابٌ إليم‏}‏‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ حرَّم الله قتل الصَّيد على المُحْرِم، فليس له أن يتعرَّض للصَّيد بوجهٍ من الوجوه ما دام مُحرماً ‏{‏ومَنْ قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ أَيْ‏:‏ فعليه جزاءٌ مماثل للمقتول من النَّعم في الخِلقة، ففي النَّعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الضَّبع كبش، على هذا التَّقدير ‏{‏يحكم به ذوا عدل‏}‏ يحكم في الصَّيد بالجزاء رجلان صالحان ‏{‏منكم‏}‏ من أهل ‏[‏ملَّتكم‏]‏ فينظران إلى أشبه الأشياء به من النَّعم، فيحكمان به ‏{‏هدياً بالغ الكعبة‏}‏ أَيْ‏:‏ إذا أتى مكة ذبحه، وتصدَّق به ‏{‏أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ مثل ذلك ‏{‏صياماً‏}‏ والمُحرِم إذا قتل صيداً كان مخيَّراً؛ إن شاء جزاه بمثله من النَّعم؛ وإن شاء قوَّم المثل دراهم، ثمَّ الدراهم طعاماً، ثمَّ يتصَّدق به، وإن شاء صام عن كلِّ مدٍّ يوماً ‏{‏ليذوق وبال أمره‏}‏ جزاء ما صنع ‏{‏عفا الله عما سلف‏}‏ قبل التَّحريم ‏{‏ومن عاد فينتقم الله منه‏}‏ مَنْ عاد إلى قتل الصَّيد مُحرماً حُكم عليه ثانياً، وهو بصدد الوعيد ‏{‏والله عزيز‏}‏ منيع ‏{‏ذو انتقام‏}‏ من أهل معصيته‏.‏

‏{‏أحلَّ لكم صيد البحر‏}‏ ما أُصيب من داخله، وهذا الإِحلالُ عامٌّ لكلِّ أحد مُحرِماً كان أو مُحِلاًّ ‏{‏وطعامه‏}‏ وهو ما نضب عنه الماء ولم يُصَد ‏{‏متاعاً لكم وللسيارة‏}‏ منفعة للمقيم والمسافر، يبيعون ويتزوَّدون منه، ثمَّ أعاد تحريم الصَّيد في حال الإِحرام، فقال‏:‏ ‏{‏وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً واتقوا الله الذي إليه تحشرون‏}‏ خافوا الله الذي إليه تبعثون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام‏}‏ يعني‏:‏ البيت الذي حرَّم أن يصاد عنده، ويختلى للحجِّ وقضاء النُّسك ‏{‏والشهر الحرام‏}‏ يعني‏:‏ الأشهر الحرم، فذكر بلفظ الجنس ‏{‏والهدي والقلائد‏}‏ ذكرناه في أولَّ السورة، وهذه الجملة ذُكرت بعد ذكر البيت؛ لأنَّها من أسباب الحج فذكرت معه ‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ ذلك الذي أنبأتكم به في هذه السُّورة من أخبار الأنبياء، وأحوال المنافقين واليهود، وغير ذلك ‏{‏لتعلموا أنَّ الله يعلم ما في السموات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أَيْ‏:‏ يدلُّكم ذلك على أن لا يخفى عليه شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏قل لا يستوي الخبيث والطيب‏}‏ أَيْ‏:‏ الحرام والحلال ‏{‏ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ وذلك أنَّ أهل الدُّنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدُّنيا‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم‏}‏ نزلت حين ‏"‏ سُئل النبيُّ حتى أحفوه بالمسألة، فقام مُغضباً خطيباً، وقال‏:‏ لا تسألوني في مقامي هذا عن شيء إلاَّ أخبرتكموه، فقام رجلٌ من بني سهم يُطعن في نسبه فقال‏:‏ مَنْ أبي‏؟‏ فقال‏:‏ أبوك حذافة، وقام آخر فقال‏:‏ أين أنا‏؟‏ فقال‏:‏ في النَّار ‏"‏، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهاهم أن يسألوه عمَّا يُحزنهم جوابه وإبداؤه، كسؤالِ مَنْ سأل عن موضعه، فقال‏:‏ في النَّار، ‏{‏وإن تسألوا عنها‏}‏ أيْ‏:‏ عن أشياء ‏{‏حين ينزل القرآن‏}‏ فيها ‏{‏تُبدَ لكم‏}‏ يعني‏:‏ ما ينزل فيه القرآن من فرضٍ، أو نهيٍ، أو حكمٍ، ومسَّت الحاجة إلى بيانه، فإذا سالتم عنها حينئذٍ تبدى لكم‏.‏ ‏{‏عفا الله عنها‏}‏ أَيْ‏:‏ عن مسألتكم ممَّا كرهه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا حاجة بكم إلى بيانه‏.‏ نهاهم أن يعودوا إلى مثل ذلك، وأخبر أنَّه عفا عمَّا فعلوا ‏{‏والله غفورٌ حليم‏}‏ لا يعجل بالعقوبة، ثمَّ أخبرهم عن حال مَنْ تكلَّف سؤال ما لم يُكلَّفوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 105‏]‏

‏{‏قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏قد سألها‏}‏ أَي‏:‏ الآيات ‏{‏قومٌ من قبلكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يعني‏:‏ قوم عيسى سألوا المائدة ثمَّ كفروا بها، وقوم صالح سألوا النَّاقة ثمَّ عقروها‏.‏

‏{‏ما جعل الله من بحيرة‏}‏ أَيْ‏:‏ ما أوجبها ولا أمر بها، والبحيرة‏:‏ النَّاقة إذا نُتجت خمسة أبطن شقُّوا أُذنها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها ‏{‏ولا سائبة‏}‏ هو ما كانوا يُسيبِّونه لآلهتهم في نذرٍ يلزمهم إنْ شفي مريض، أو قضيت لهم حاجة ‏{‏ولا وصيلة‏}‏ كانت الشَّاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا‏:‏ وصلت أخاها فلم يذبحوا الذَّكر لآلهتهم ‏{‏ولا حامٍ‏}‏ إذا نُتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا‏:‏ قد حمى ظهره، فلم يُركب ولم يُنتفع، وسيِّب لأصنامهم فلا يُحمل عليه ‏{‏ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ يتقوَّلون على الله الأباطيل في تحريم هذه الأنعام، وهم جعلوها مُحرَّمة لا الله، ‏{‏وأكثرهم‏}‏ يعني‏:‏ أتباع رؤسائهم الذين سنُّوا لهم تحريم هذه الأنعام، ‏{‏لا يعقلون‏}‏ أنَّ ذلك كذبٌ وافتراءٌ على الله من الرُّؤساء‏.‏

‏{‏وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله‏}‏ في القرآن من تحليل ما حرَّمتم ‏{‏قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا‏}‏ من الدِّين ‏{‏أَوَلوْ كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون‏}‏ مفسَّرة في سورة البقرة‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم‏}‏ احفظوها من ملابسة المعاصي والإِصرار على الذّنوب ‏{‏لا يضرُّكم مَنْ ضلَّ‏}‏ من أهل الكتاب ‏{‏إذا اهتديتم‏}‏ أنتم ‏{‏إلى الله مرجعكم جميعاً‏}‏ مصيركم ومصير مَنْ خالفكم، ‏{‏فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ يُجازيكم بأعمالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم‏}‏ نزلت هذه الآيات في قصّة تميمٍ وعديٍّ وبُديلٍ، خرجوا تجاراً إلى الشَّام، فمرض بُديل ودفع إليهما متاعه، وأَوصى إليهما أن يدفعاه إلى أهله إذا رجعا، فأخذا من متاعه إناءً من فِضَّة، وردَّا الباقي إلى أهله فعلموا بخيانتهما ورفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، ومعنى الآية‏:‏ ليشهدكم ‏{‏إذا حضر أحدكم الموت‏}‏ وأردتم الوصية ‏{‏اثنان ذوا عدل منكم‏}‏ من أهل ملَّتكم تشهدونهما على الوصية ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ من غير دينكم إذا ‏{‏ضربتم‏}‏ سافرتم ‏{‏في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت‏}‏ علم الله أنَّ من النَّاس مَنْ يسافر فيصحبُهُ في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، ويحضره الموت فلا يجد مَنْ يُشهده على وصيته من المسلمين، فقال‏:‏ ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ فالذِّميان في السَّفر ‏[‏خاصَّة‏]‏ إذا لم يوجد غيرهما ‏[‏تُقبل شهادتهما في ذلك‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتُمْ لا نشتري به ثمناً‏}‏ أَيْ‏:‏ أن ارتبتم في شهادتهما وشككتم، وخشيتم أن يكونا قد خانا حبستموهما على اليمين بعد صلاة العصر، فيحلفان بالله ويقولان في يمينهما‏:‏ لا نبيع الله بعرضٍ من الدُّنيا، ولا نُحابي أحداً في شهادتنا ‏{‏ولو كان ذا قربى‏}‏ ولو كان المشهود له ذا قربى ‏{‏ولا نكتم شهادة الله‏}‏ أَيْ‏:‏ الشَّهادة التي أمر الله بإقامتها ‏{‏إنا إذاً لمن الآثمين‏}‏ إنْ كتمناها، ولمًّا رفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما، وذلك أنَّهما كانا نصرانيين، وبُديل كان مسلماً، فحلفا أنَّهما ما قبضا غير ما دفعا إلى الورثة، ولا كتما شيئاً، وخلَّى سبيلهما ثمَّ اطُّلِع على الإِناء في أيديهما، فقالا‏:‏ اشتريناه منه، فارتفعوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فنزل قوله‏:‏

‏{‏فإن عثر‏}‏ أَيْ‏:‏ ظهر واطلع ‏{‏على أنهما استحقا إثماً‏}‏ أَيْ‏:‏ استوجباه بالخيانة والحنث في اليمين ‏{‏فآخران يقومان مقامهما‏}‏ من الورثة، وهم الذين ‏{‏استحق عليهم‏}‏ أَيْ‏:‏ استحق عليهم الوصية، أو الإِيصاء، وذلك أنَّ الوصية تستحق على الورثة ‏{‏الأوليان‏}‏ بالميت، أَيْ‏:‏ الأقربان إليه، والمعنى‏:‏ قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت، فيحلفان بالله‏:‏ لقد ظهرنا على خيانة الذِّميِّيْن وكذبهما وتبديلهما، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فيقسمان بالله لشهادتنا أحقٌّ من شهادتهما‏}‏ أَيْ‏:‏ يميننا أحقُّ من يمينهما ‏{‏وما اعتدينا‏}‏ فيما قلنا، فلمَّا نزلت هذه الآية قام اثنان من ورثة الميِّت فحلفا بالله أنَّهما خانا وكذبا، فدفع الإناء إلى أولياء الميت‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ ما حَكم به في هذه القصَّة، وبيَّنه من ردِّ اليمين ‏{‏أدنى‏}‏ إلى الإِتيان بالشَّهادة على ما كانت ‏{‏أو يخافوا‏}‏ أَيْ‏:‏ أقرب إلى أن يخافوا ‏{‏أن ترد أيمان‏}‏ على أولياء الميِّت بعد أيمان الأوصياء، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أن تحلفوا أيماناً كاذبةً، أو تخونوا أمانةً ‏{‏واسمعوا‏}‏ الموعظة ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ لا يرشد مَنْ كان على معصيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 116‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏109‏)‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏110‏)‏ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏(‏111‏)‏ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏يوم يجمع الله الرسل‏}‏ أَيْ‏:‏ اذكروا ذلك اليوم ‏{‏فيقول‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏ماذا أُجِبْتُمْ‏}‏ ما أجابكم قومكم في التَّوحيد‏؟‏ ‏{‏قالوا لا علم لنا‏}‏ من هول ذلك اليوم يذهلون عن الجواب، ثمَّ يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم، فيشهدون لمن صدَّقهم، وعلى مَنْ كذَّبهم‏.‏

‏{‏إذ قال الله يا عيسى ابن مريم‏}‏ مضى تفسير الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏وإذ كففت بني إسرائيل عنك‏}‏ أَيْ‏:‏ عن قتلك‏.‏

‏{‏وإذ أوحيت إلى الحواريين‏}‏ أَيْ‏:‏ ألهمتهم‏.‏

‏{‏إذ قال الحواريون يا عيسى ابنَ مريم هل يستطيع ربك‏}‏ لم يشكُّوا في قدرته، ولكنْ معناه، هل يقبل ربُّك دعاءَك، وهل يسهل لك إنزال مائدة علينا من السَّماء، عَلَماً لك ودلالةً على صدقك‏؟‏ فقال عيسى‏:‏ ‏{‏اتقوا الله‏}‏ أن تسألوه شيئاً لم تسأله الأمم من قبلكم‏.‏

‏{‏قالوا‏:‏ نريد أن نأكل منها‏}‏ أَيْ‏:‏ نريد السُّؤال من أجل هذا ‏{‏وتطمئن قلوبنا‏}‏ نزداد يقيناً بصدقك ‏{‏ونكون عليها من الشاهدين‏}‏ لله بالتَّوحيد، ولك بالنُّبوة‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا‏}‏ أَيْ‏:‏ نتّخذ اليوم الذي تنزل فيه عيداً نُعظِّمه نحن ومَنْ يأتي بعدنا ‏{‏وآيةً منك‏}‏ دلالةً على توحيدك وصدق نبيِّك ‏{‏وارزقنا‏}‏ عليها طعاماً نأكله، وقوله‏:‏

‏{‏فمن يكفر بعد منكم‏}‏ أَيْ‏:‏ بعد إنزال المائدة ‏{‏فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏ أراد‏:‏ جنساً من العذاب لا يُعذَّب به غيرهم من عالمي زمانهم‏.‏

‏{‏وإذْ قال الله يا عيسى ابن مريم‏}‏ واذكر يا مُحمَّدُ حين يقول الله تعالى يوم القيامة لعيسى‏:‏ ‏{‏أأنت قلت للناس اتخذوني وأمِّي إلهين من دون الله‏}‏ هذا استفهامٌ معناه التُّوبيخ لمن ادَّعى ذلك على المسيح؛ ليكِّذبهم المسيح، فتقوم عليهم الحجَّة ‏{‏قال سبحانك‏}‏ أَيْ‏:‏ براءتك من السُّوء‏.‏ ‏{‏تعلم ما في نفسي‏}‏ أَيْ‏:‏ ما في سرِّي وما أضمره ‏{‏ولا علم ما في نفسك‏}‏ أَيْ‏:‏ ما تخفيه أنت، وما عندك علمه ولم تُطلعنا عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 120‏]‏

‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏وكنتُ عليهم شهيداً‏}‏ أَيْ‏:‏ كنت أشهد على ما يفعلون ما كنتُ مقيماً فيهم ‏{‏فلما توفيتني‏}‏ ‏[‏يعني‏:‏ رفعتني‏]‏ إلى السَّماء ‏{‏كنت أنت الرقيب‏}‏ الحفيظ ‏{‏عليهم وأنت على كلِّ شيء شهيد‏}‏ أَيْ‏:‏ شهدت مقالتي فيهم، وبعد ما رفعتني شهدتَ ما يقولون من بعدي‏.‏

‏{‏إن تعذبهم‏}‏ أَيْ‏:‏ من كفر بك ‏{‏فإنهم عبادك‏}‏ وأنت العادل فيهم ‏{‏وإن تغفر لهم‏}‏ أَيْ‏:‏ مَنْ تاب منهم وآمن فأنت عزيرٌ لا يمتنع عليك ما تريد، حيكمٌ في ذلك‏.‏

‏{‏قال الله‏:‏ هذا يوم‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة ‏{‏ينفع الصادقين‏}‏ في الدُّنيا ‏{‏صدقهم‏}‏ لأنَّه يوم الإِثابة والجزاء ‏{‏رضي الله عنهم‏}‏ بطاعته ‏{‏ورضوا عنه‏}‏ بثوابه ‏{‏ذلك الفوز العظيم‏}‏ لأنهم فازوا بالجنَّة‏.‏

‏{‏لله ملك السموات والأرض‏}‏ عظَّم نفسه عمَّا قالت النصارى‏:‏ إنَّ معه إلهاً‏.‏